هل هناك حقاً ما يُسمى تعفن الدماغ ؟
يُعَدُّ ضعف التركيز وتأثيره الواضح على الذاكرة أحد الأعراض المميزة لاضطراب القلق المعمم (GAD). ولكنّ هذا العرض، للأسف، أصبح جزءًا من الوعي الجمعي لجيلٍ كامل فمن السهل جداً أن تجد أي شخص من أبناء هذا الجيل يشكو من مشاكل في التركيز وهذا لا يرتبط بالقلق أو بأي اضطراب نفسي، بل هو نتيجة الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي والاعتماد الكلّي عليها في مختلف شؤون الحياة وقد أُطلِق على هذه الظاهرة اسم "تعفُّن الدماغ" أو Brain Rot.
كثيرٌ من المرضى الذين أقابلهم مؤخراً، يأتون وقد شخّصوا أنفسهم بأنهم يعانون من "تعفُّن في الدماغ"، وبالطبع، المصدر الأساسي لهذه المعلومات هو المنصة اللطيفة: تيك توك والحقيقة أنَّه لا وجود فعليًّا لشيء علمي يُدعى "تعفُّن الدماغ" (حتى وإن بدونا متيقنين).
فلماذا إذن انتشر هذا المصطلح بهذا الشكل؟
قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية فاجأنا العام الماضي بإدراجه لمصطلح "Brain Rot" أو "تعفُّن الدماغ" كأحد مصطلحات اللغة الشائعة، وذلك بعدما لاحظ الخبراء في القاموس أن نسبة استخدام هذا المصطلح ارتفعت بنسبة 230% مؤخراً ونتيجة لذلك، أعلِن عنه كأكثر مصطلح انتشاراً في عام 2024.
ومن هنا بدأت الفوضى العلمية!
مَن الذي قرر أن استخدام عدد كبير من الناس لمصطلح معين، يجعله علمياً؟ على سبيل المثال، إن بحثت في مصر، ستجد أن هناك الكثير من المصطلحات الدخيلة على اللهجة المصرية، ولكنّ ذلك لا يعني أنها مصطلحات علمية. نحن فقط أصبحنا نميل إلى استخدام الأسماء الغامضة التي توحي لمن يسمعنا أننا نفهم، إلى جانب عامل آخر مهم وهو لفت الانتباه فعندما تنشر منشوراً على فيسبوك تقول فيه: "أنا عندي تعفُّن دماغ رهيب"، فإن الهدف غالباً يكون استدرار العطف أو جذب الأنظار، لا أكثر.
ما الذي قاله أوكسفورد عن هذا المصطلح؟
⬅️ أوضح أن المقصود به هو التدهور في التركيز والانتباه، وأنه يؤدي إلى حالة مستمرة من القلق والتوتر، وعدم القدرة على التعامل مع المشكلات، بالإضافة إلى تدهور العلاقات الاجتماعية تدريجياً وكل هذا نتيجة التعرض المستمر لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا الطرح ليس جديداً، فالمجلات والمواقع العلمية تزخر بمقالاتٍ عديدة تتحدث عن التأثيرات السلبية لهذا الأمر. بل إن هناك دراسة تشير إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي، على المدى الطويل، تؤثر على منطقة الحُصين (Hippocampus) في الدماغ، وهي المسؤولة عن الذاكرة والتعلُّم.
لكن المشكلة تكمن في اعتبار المصطلح أمراً مُسلَّماً به!
والسبب بسيط جداً: لأن هذا الجيل، عند علمه بأضرار أمرٍ ما، لا يُقلِع عنه إنه جيل نشأ في زمنٍ جديد اسمه "التريند"، ولذلك، فعندما يقرأ أحدهم عن هذا المصطلح، فإنه لا يفعل ذلك بدافع التوعية، بل رغبة في أن يشعر داخلياً بأنه يعاني وأنه وحيد ولا أحد يفهمه وعندما يعجز عن تحمّل المسؤولية، ينشر منشوراً عشوائياً على الفيسبوك، دون هدف واضح. ومع ذلك، لا يُفكّر في الابتعاد عن الهاتف، لأن الواقع صعبٌ للغاية، وهو لا يستطيع تحمُّل قسوته، فيهرب منه.
والأهم من ذلك أنَّه – شاء أم أبى – بات مضطراً لأن يكون جزءاً من المنظومة الإلكترونية فالتعليم، والعمل، والتواصل، وحتى التهاني والتعازي، أصبحت تُدار كلها عبر الإنترنت. وإن قررت الانفصال، ستجد نفسك غريباً عن السياق العام، لا تفهم ما يجري، ولا حتى النكات الرائجة لأنك خارج دائرة التريند.
أنا شخصياً جرّبت الانفصال عن الإنترنت وأنا في السنة الثانية من الكلية، وانقطعت عنه تماماً، وكان ذلك خلال فترة كورونا – أي أنني رغم ذلك كنت مضطراً أحياناً لاستخدامه للدراسة ومع ذلك، كانت من أجمل التجارب في حياتي قرأت وقتها ما يقارب 95 كتاباً في عامٍ واحد، ومارست الرياضة بانتظام، وشعرت أنني أعيش بحق، لا أُمثّل دور من "يبدو أنه يعيش" لم أعد أهتم بمَن نشر صورته، أو مَن يتشاجر مع مَن ورغم عودتي لاستخدام الإنترنت بسبب متطلبات الكلية، إلا أنني أحنُّ كثيراً لتلك الأشهر الأربعة.
الجدير بالذكر أن مصطلح "تعفُّن الدماغ" من الناحية الطبية ليس له المعنى الذي يُروّج له.
فـتعفُّن الدماغ أو ANE في علم الأعصاب يُشير إلى تلف حاد وسريع في أنسجة الدماغ، ويكون غالباً نتيجة رد فعل مناعي لعدوى فيروسية وهو مصطلح بعيد تماماً عن المقصود هنا، ولا يرتبط بما جاء في قاموس أوكسفورد من معنى مجازي.
دعوني أضع النقاط على الحروف:
من وجهة نظري المتواضعة، كل ما في الأمر هو حالة من تشتت الانتباه الناتج عن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، وليس "تعفُّن دماغ" ولا تلك المصطلحات الفخمة التي نُحب ترديدها.
والحل بسيط جداً : ابتعد عنها – أو على الأقل قلّل استخدامها. حدِّد يومياً ما الذي تريد فعله على الإنترنت، وعندما تنتهي منه، لا تفتح الهاتف لبقية اليوم وستلاحظ تحسُّناً تدريجياً في تركيزك، سيظهر ذلك خلال أسبوعين فقط (وأنا أقول هذا من تجربة شخصية، وليس اعتماداً على بحث علمي).
وأتمنى أن أستطيع الالتزام بذلك أيضا .
الاخصائي النفسي الإكلينيكي: محمد منير
إرسال تعليق