أوروبا بين العصور المظلمة و التقدم .
في الحقيقة التاريخ لا ينقلب على أحد، بل إن أفعالنا هي التي تصنع التاريخ، لو تأملت طبيعة الحياة لوجدت أنه لا يوجد شيء يستمر على عافيته أبداً، كل شيء إلى زوال، و هذه الجملة الأخيرة لا تعني أنني أؤمن بالمنظور العدمي للحياة، بل ببساطة أنا أراها كما يراها ابن خلدون تمر بفترة ميلاد و نضج و ثبات و اضمحلال .
لو تأملت تاريخ الحضارة الإسلامية لوجدت أنها كانت في أوج عصرها الذهبية إبان الدولة العباسية، كان هناك تقدم في كافة العلوم كالطب و الأحياء و الفيزياء و الكيمياء و علم النفس، بالإضافة إلى التقدم العسكري عالمياً، و في هذه الوقت من التاريخ كانت أوروبا تعاني من ويلات الفقر و الجهل و المرض فيما يعرف بالعصور المظلمة، و ظلت تعاني أكثر 700 سنة تقريباً، حتى بدأت هذه الدول تنهل من العلوم الناجمة عن الحضارة الإسلامية، ثم سريعاً فطنوا لواقع حياتهم التعيسة، و شيدوا الجامعات و قاموا بالعديد من الرحلات الاستكشافية و التي كان أشهرها رحلة كولومبوس التي اكتشف من خلالها أمريكا .
و بعد عدة سنوات تم اختراع أول محرك بخاري في التاريخ على يد توماس نيوكمن عام 1712 و هذا بدوره أدى إلى تقدم صناعي هائل و أنعش الحياة التعيسة التي كانوا يتلظون بها، بل و بعد قليل من الزمن رأوا بعيونهم مدى التقدم التجاري أيضاً، و لذلك بدأت فكرة الغزو تجتاح أذهانهم خاصة بريطانيا التي كانت جائعة للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الدول، و في هذا الوقت كانت الحضارة الإٍسلامية عبارة عن زهد و عبث و عربدة نتيجة الثراء الفاحش الذي تنشقه بلذة خلفاء المسلمين، و سريعاً عندما أدركت بريطانيا مدى ضعف حكام الدولة الإسلامية بدأت تدريجياً في السيطرة على بعض الدول، و من بعدها فرنساً، حتى أًصبحت أغلب الدول الأوروبية تسعى جاهدة لتوسيع نفوذها .
لكن في ذلك الوقت حدث شيء زلزل العالم و أوروبا على وجه الخصوص، ربما لم أنتبه و أنا أتكلم أن أذكر أن أوروبا كانت متدينة في ذلك الوقت، و كانوا عادة يزورون الكنائس باستمرار، لكن بسبب سيطرة رجال الأعمال و الأمراء على أغلب المشروعات و عدم رضاء الشعب عن هذه المعاملة التي تشبه معاملة العبيد، بالإضافة إلى أن رجال الدين أصبحوا منافقين، أما الحدث الذي زلزل العالم فهو الثورة الفرنسية و هي أعنف ثورة في التاريخ، قامت هذه الثورة على الأمراء و رجال الأعمال و رجال الدين أيضاً، و للغرابة فقد قُتل في هذه الثورة أشخاص كُثر بغير ذنب .
و منذ ذلك اليوم أًصبحت فرنسا دولة ليبرالية أي تحت تصرف الشعب، و انتهى
مفهوم الدين تدريجياً في فرنسا و بقية الدول الأوروبية، و بعد حوالي أربعون سنة تقريباً خرج لنا الألماني كارس ماركس بالبيان الشيوعي، كان ناقداً على الرأسمالية التي أدت إلى سيطرة بعض الأشخاص على التجارة، و لذلك جاءت الشيوعية بشيء جديد و هو أننا جميعاً سواسية، سنعمل في نفس الأماكن و نرتدي نفس الملابس و نأخذ نفس الراتب، لكن المشكلة في هذا النظام هو أنك عند مرحلة معينة ستفرغ خزينة الدولة لأنه لا يوجد سوق حر و لا توجد أي أفكار مبتكرة للتطور، لذلك سيكون نظام الضرائب هو الحل الأسلم و سيكون بنسبة ثابتة تطبق على الشعب كله، لكن ماذا لو كان في هذا الشعب شخص غني، فأنت مثلاً وضعت 10 % ضرائب على الجميع، فستأخذ من عامة الشعب عشر جنيهات مثلاً و لكنك ستأخذ من الغني مليون جنيه، و لذلك سيخرج الغني من الدولة، و من هنا سيحدث ما يسمى بالكساد، و لذلك فشل النظام الشيوعي في حل المعضلة .
كان المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت متحرراً من كل قيد، فظهرت نظرية داروين التي أنكرت تمييز الإنسان عن الحيوان، في الحقيقة هو لم يقل بأن الإنسان أصله قرد كما يدعي الجميع، هو قال بأننا جميعاً قادمون من نسل مشترك، أي أنك كنت في أحد الأيام مثل هذا الحيوان الذي تراه في الشارع، لكنك تطورت تحت تأثير الظروف و الضغوطات أما هذا الحيوان فلم يتطور .
ثم جاء الزلزال الفلسفي الذي أطاح بفكرة الدين من جذورها و هو تصريح الفيلسوف الألماني العدمي فريدريك نيشه بأن الإله قد مات و نحن من قتلناه، لم يكن غريباً على نيشه هذا التصريح لأن أفكاره دائماً ثورية و لكن المشكلة هو أنه رغم انتقاده إلا أن عدداً كبيراً من الناس صدقه، و توالت العديد من المناظير التي تدعم هذا الاعتقاد .
هل لاحظت المرور من العصور المظلمة حيث الجهل و المرض إلى الإيمان بالدين و التقدم إلى العربدة و التفكير الثوري، فما الذي تتوقعه في المرحلة القادمة، سنكمل في مقال قادم .
بقلم :محمد منير
إرسال تعليق