الرواية البوليفونية.. الهاجس البشري في معرفة أفكار الأخرين .

الرواية البوليفونية.. الهاجس البشري في معرفة أفكار الأخرين . 



بقلم // محمد منير 


    هناك فكرة تراود كل إنسان في أوقات متعددة من يومه، قد يتساءل بشكل قهري " ما الذي يفكر فيه غيري ؟ " هل يحبني ؟ هل يكرهني ؟ هل يضمر لي العداء أم أنه ساكن في مكانه دون أن يفعل شيء، و امتداداً لهذا الهاجس الذي يصل أحياناً إلى الاضطراب النفسي، ظهر نوع من الروايات يسمى بالرواية البوليفونية أو بمعنى أدق الرواية متعددة الأصوات .

    في الأساس كلمة بولفونية مصطلح موسيقي يشير إلى أصوات متعددة للألات الموسيقية، فالصولو يعني أن آلة واحدة هي التي تصدر الصوت، أما البوليفونية فتعني آلات كثيرة متعددة . 

    تصف هذه الرواية شكل مركب من المشاعر و الأفكار، فهي لا تسرد بضمير المتكلم كما الرواية الذاتية التي تقوم على أن الشخصية الرئيسية هي التي تصف الأحداث و نرى الدنيا من عيونها، و لا تسرد أيضاً بطريقة الراوي العليم الذي يصف الأحداث و كأنه يراقب الشخصيات دون أن يتدخل، و لكن في الرواية البوليفونية يقوم الروائي بوصف الأحداث من وجهة نظر كل شخصية، ببساطة هي تشبه الرواية الذاتية في رؤية الأحداث من منظور الشخص، و لكن هنا ليس شخص واحد هو الذي يصف الحدث بل مجموعة من الشخصيات، فمثلاً قد تجد في إحدى الفصول شخصية تقول " أنا ذهبت.. أنا رحلت" و شخصية أخرى في فصل أخر تقول " أنا لم أّذهب.. بل لم أفكر في الذهاب" .

    و هذا هو التعبير الجلي عن الهاجس الذي قلته لك في السطور السابقة، فأنت في هذه الرواية تتعرف على دواخل كل شخصية من حيث أفكارها و مشاعرها و حكمها على العالم، و رغم أن هذا النوع من الروايات مبهر في رأيي إلا أنه يتطلب حنكة معينة، فمثلاً كيف يمكنك تقمص خمس شخصيات في رواية واحدة، كل شخصية لها طريقة في السرد و الحوار و التعليق، لذلك فهي من أصعب أنواع الروايات، لأنها تقدم وجهات نظر متعددة لحدث واحد . 

لذلك من الضروري قبل أن تمسك قلمك و تخط أول كلمة في هذه الرواية

، لا بد و أن تعرف هل القصة التي تحاول سردها تستحق هذا النوع المعقد أم أنك تحاول أن تتذاكى على القارئ، لأنك قبل أن تبدأ يجب أن تعرف تقريباً كل التفاصيل عن شخصياتك، لأن جوهر هذه الرواية و سحرها هو التناقض و الاختلاف الواضح بين وجهات كل شخصية، و وجهة نظر الإنسان تجاه العالم تكون منبثقة من طفولته و جيناته و تربيته، فهل أنت مستعد لأن تصنع ملف خاص لكل شخصية من طفولتها و حتى النقطة التي بدأت منها القصة ؟ هل أنت مستعد لتوضيح الاستعداد الجيني للشخصية، فمثلاً الشخصية متشائمة جداً و ترى أن الفيلسوف أرثر شوبنهاور هو أعظم شخص جاء على كوكب الأرض، يجب أن توضح هل هناك شخص في العائلة كان متشائماً أيضاً أم أنه تأثر بالتربية القاسية التي اصطدم بها في طفولته . 

    هذه التفاصيل حتى لو لم تستخدمها لكنها مهمة، فهي تقربك من روح الشخصية و تعطيك انطباع عام لما يدور بذهنها، و أسهل طريقة من وجهة نظري هي أن تضع مجموعة من المصطلحات و الكلمات التي تعبر عن كل شخصية في ملف هذه الشخصية، و تحاول أن تقرأ عن اضطراب الشخصية في علم النفس، هذا سيعطيك رؤية عميقة لما يمكن أن تكون عليه الشخصيات . 

    في الحقيقة، رغم صعوبتها إلا أن هناك عدد كبير من الكتاب برع في هذا النوع الروائي مثل الكاتب الروسي فيودور ديستويفسكي كما في روايته ( الإخوة كارمازوف )، و أيضاً الكاتب جابريل جارسيا ماركيز في روايته ( مائة عام من العزلة )، و لقد جرب نجيب محفوظ هذا النوع في تحفته الخالدة ( أفراح القبة ) . 

    أرى أن جمال الرواية البوليفونية هي أنها تجعلك تتفهم وجهة نظر غيرك، تجعلك تعي لما تصرف بهذه الطريقة في هذا الموقف، لأن الإنسان في الغالب يتخيل أن نوايا الأخرين و أفكارهم هي دائماً ضده، لكنه سيعي من خلالها أنه ليس محور العالم و أن لكل شخص همومه التي يعلنها أو يدسها عن الناس .      

Post a Comment

أحدث أقدم