بين سطور أدب نجيب محفوظ.
كتب// محمد منير حمدان
أحياناً أظن أن أسهل طرق التعرف على الثقافة المصرية هي ادب نجيب محفوظ، إن صفحاته تتحدث بلغته البليغة عن كل شيء غريب و حزين و رائع في الروح المصرية، و تفرده لم يكن لأنه اتبع المناخ الغربي السائد بل لأنه لاحظ ما يدور من حوله و سجل ملاحظاته بكل آيات النشوة، و النشوة ليست خطئا مطبعيا، ذلك لأنك تستطيع بسهولة أن تلتمس في صفحاته أنه متلذذ بما يفعله، ينتشي بتفاصيل عوالمه و شخوصه.. فتعالوا معا نتكلم قليلاً عن نجيب محفوظ.
في البداية لا بد أن تعلم أن هذا ليس مقالا تقريريا يتحدث عن تاريخ نجيب محفوظ و ميلاده و إنجازاته، لأن هناك مئات المقال التي فعلت ذلك بجدية و بأقلام جهابزة المقال، لكن اعتبر هذا المقال للتسلية إن كنت تحب محفوظ كما أنا.
أول شيء غريب يجب أن تعرفه هو أن نجيب محفوظ اسم مركب، و لقد سُمي بهذا الاسم تيمناً بالطبيب الذي جعله يخرج للحياة، حيث كانت ولادته متعسرة و خشي الجميع أن يموت الطفل لكن جاء الطبيب نجيب محفوظ لينقذه فسُمي على اسم هذا الطبيب، بالطبع الجميع يعرف أنه كان يعيش في الحسين مسقط رأسه و منشأ خياله و شخوصه، في صغره كان مشاغبا و لم يكن صبيا انطوائيا كما هي الصورة الذهنية لأغلب الكُتاب، و يمكن أن يكون ذلك هو السبب في كون جعبته كثيرة الإنتاج، فالحسين مكان عريق يعبق بالذكريات و الحوادث العظام و لو وُهبت عطية الكتابة في بيئة تنضح بالخيال لأصبحت كاتباً رائعا، و هذا ما حدث فعلاً، حين تلاحظ الكم الهائل من الأعمال التي نشرها محفوظ لدُهشت من عزم هذا الرجل و خصابة موهبته، تخيل أن تعيش لأكثر من أربعين عاماً تنشر كل سنة رواية جديدة يحتفي بها النقاد و الجمهور، إنه العزم الذي نفتقره الآن.
من شاهد محفوظ و لم يقرأ له فكأنه لا يعرفه، و أقصد بالمشاهدة السينما، لأن السينما لم تكن منصفة في معالجة أغلب قصصه بعناية، فالمؤلف يأخذ سطح القصة و ينكر الجوهر الفلسفي و النفسي المبطن، فمثلاً ثلاثية القاهرة و التي يراها عدد كبير من النقاد و القراء بأنها أهم رواية عربية في التاريخ، انظر إلى الأفلام التي عالجت هذه القصة، من شاهد الفيلم سيجد أنه يتحدث عن النضال الشعبي و ديكتاتورية الحكومات ممثلة في شخصية الأب سي السيد، و لكن القصة أبعادها أعمق بكثير من هذا الإطار المترهل الهش، أنها تتحدث عن الحب و الحيرة و الأزمة الوجودية و الأهم من كل ذلك فلسفة العائلة في إطار زمني قديم، و ما قلته ليس إلا مجرد تعبيرات بسيطة عما يحتويه مكنون القصة .
و ما دمنا نتحدث عن المكنون فمحفوظ كل مكنونات قصصه تدور في فلك مجموعة من التيمات، و هذا ليس عيبا بل إن ذلك معناه أن بصمة الكاتب حاضرة شريطة ألا تتكرر بشكل فج و مزعج، فمثلاً هو متأثر جداً بالفلسفة الوجودية و خاصة فلسفة جان بول سارتر التي تنادي بالحرية و البحث عن معنى الحياة و الوجود، و ظهر ذلك جلياً في روايته ثرثرة فوق النيل التي تشترك مع روايات الفيلسوف ألبير كامو في إنها تتجرد من كل ما هو إنساني و تبحث في الوجود دون أن تصل إلى نتيجة .
و هو لا ينكر البُعد النفسي للشخصيات، فهو يصفها بدقة و عناية شديدين لدرجة أنني أظن أحيانا أن محفوظ من أهم علماء النفس المصريين على مر التاريخ، و هذا ليس رأيي أنا فقط بل إن الطبيب النفسي الكبير يحيي الرخاوي أقر بأن قراءة روايات محفوظ تفيده أكثر من كتب الطب النفسي، و يمكن ملاحظة التفاصيل النفسية في رواية مثل الشحاذ التي تتحدث عن رجل يمر بأزمة منتصف العمر و يصيبه الاكتئاب و الخدر العاطفي فلا يعرف للحياة معنى أو هدف، و كذلك يمكنك قراءة رواية السراب و هي في نظري جوهرة الأدب النفسي الحديث في مصر، فهي تتحدث عن اضطراب الشخصية الاعتمادية و كيف ينشأ و ما هي الظروف التي تهيج لبروزه .
هذا بالتأكيد يذكرك بكاتب أخر له نفس المنهجية تقريباً في الكتابة و هو الاديب الروسي الأشهر فيودور ديستوفيسكي، هو الأخر كان مهتم بالابعاد النفسية و الفلسفية، و لذلك قيل إن عالم النفس فرويد قد تأثر كثيراً برؤية فيودور للإنسان في رواياته، و لقد قال محفوظ في أكثر من مناسبة أنه متأثر بأسلوبه، و كما قال الفنان نور الشريف في إحدى اللقاءات أن من لم يقرأ لديستوفيسكي لم يقرأ، و محفوظ تبنى هذا الاعتقاد و شرب من التشاؤمية الروسية و اعتقد أيضا أنه تأثر بالأدب الألماني و بخاصة فريدريك نيشه زعيم الفلسفة العدمية و كذلك الفلسفة العبثية التي لاحت بشكل صارخ في روايات كافكا، و يمكن ملاحظة تأثره الواضح بالرؤية الصوفية للحياة، ففي أغلب روايات محفوظ تجد شخص حكيم غارق في حب الله و يتحدث بالألغاز .
في النهاية هذه هي رؤيتي البسيطة لما أراه في سطور أدب محفوظ، و أعتقد أن لدى الكثير لأقوله ربما في مقالات أخرى .
إرسال تعليق