لماذا نتعاطف مع من يؤذينا ؟.. متلازمة ستوكهولم. " مجلة مارڤيليا "

 


كتب // محمد منير حمدان " أخصائي نفسي"


ذكر نجيب محفوظ جملة " الإنسان لغز" في أكثر من موضع في رواياته، لم أفهم فعلاً ما الذي يقصده هذا الرجل بتلك الجملة، لكن حين تتأمل حياة الإنسان بين دِفتي مشاعره و سلوكه ستجد أنه لُغز فعلاً لأن طبيعته غير نمطية و لا يمكن التنبؤ بسلوكه، و الحادثة التي سيرد ذكرها في المقال هي دليل حي على غرابة السلوك الإنساني .

    عام 1973 في السويد و بالتحديد في العاصمة ستوكهولم، قام مجموعة من المجرمين بالسطو على بنك و قام مجرم مسلح منهم باحتجاز مجموعة من الرهائن لمدة ستة أيام لحين مجيء الشرطة، الغريب في هذه الحادثة هو رد فعل الرهائن، حيث إنهم تعاطفوا بشكل مفرط مع هذا المجرم، تجاوزا عن كل ما فعله بهم بل و تمادوا حتى وصلوا إلى الدفاع عنه و تبرير أفعاله، و للمفاجأة لم يشهد أحد من الرهائن ضد هذا المجرم و دافعوا عنه ضد كل الخصوم في المحاكم، رغم أنه كان على وشك أن يقتلهم، و قام فعلاً بالتهديد الجاد بالعنف تجاه هؤلاء الناس، و منذ ذلك الحين و هذه الحادثة مادة خام للأبحاث و النظريات النفسية التي تفسر سلوك الإنسان، و سميت فيما بعد بمتلازمة ستوكهولم و التي تعني التعاطف مع المؤذي أو المُعتدي .

    و لكن هل هذه المشاعر يمكن أن تنتاب أي شخص ؟ في الحقيقة لا يمكن الجزم بذلك، فما دمنا اتفقنا أن سلوك الإنسان مفاجئ إذن فالموقف هو الذي يحدد ردود أفعالك و ليس قناعاتك و شخصيتك، لكن حين تتعرض لموقف ضاغط كصدمة عاطفية أو نفسية أو جسدية فإن جسمك يحس بالخطر بطريقة أخرى، حيث تقوم منطقة اللوزة الدماغية ( Amygdala ) بإرسال إشارة عصبية للغدة الكظرية التي تقوم بإفراز هرمونات القلق الكورتيزول و الأدرينالين، هذه الهرمونات تتعامل مع الخطر فتهيج جسد الإنسان لكل المخاطر من حوله و تجعله متيقظاً بفرط فيما يُعرف باستجابة الكر و الفر، لكن استجابة الجسم للخطر تختلف من شخص لأخر، فهرمون الكورتيزول مثلاً لو زاد عن حده سيجعل الشخص يشعر كأنه على وشك أن يموت، و من هنا يمكن تفسير ما حدث .

   ماذا لو أنك فعلاً وُضعت في مكان مُغلق مع شخص على وشك أن يقتلك؟ شخص يمسك السلاح و لا يبالي إن كانت الطلقات ستصيبك أم لا، مؤكد أنك سوف تخاف، لكن ليس في الحدود الطبيعية للخوف، إنه خوف من الموت، من منا لا يخاف من الموت ؟ بالتأكيد أنت لديك خطط كثيرة تريد تنفيذها في الحياة، لكن الأهم من تنفيذ الخطط هو الحياة في حد ذاتها، أنت تريد أن تعيش لأنك فيسيولوجياً خُلقت لكي تعيش و جسمك دوماً ما يدافع عنك في حالات الخطر حتى يحميك من الموت كما قلنا سابقاً، لكن في الحالات الطبيعية لا يكون الموت موشكاً بل أنت تعرف مثلاً أن الكلب الذي يجري وراءك لن يقتلك، أنت فقط خائف، مجرد خوف و بعدها ستعود الأمور إلى ما كانت عليه، لكن ماذا لو كانت غريزة البقاء هي التي تحركك الأن ؟

    غريزة البقاء هي الدافع الذي يجعلك تعيش، و لذلك حين يكون الأمر فوق طاقة منطقة قشرة الفص الجبهي و هي المنطقة المسئولة عن التفكير المنطقي في المخ، فإن العقل الباطن يتعامل بطريقته مع الموقف، و العقل الباطن مراوغ و ماكر و لا يمكن التنبؤ به، لكن لحسن حظك هو أيضاً يدافع عنك كما يدافع سائر جسدك عنك، لكن العقل الباطن قد يتعامل بطريقة سلبية أحياناً، حيث يجعلك تتصرف بطريقة لا شعورية في مواقف القلق و التوتر و ذلك يسمى بميكانيزمات الدفاع .

    و لكي أبسط الأمر عليك، فهناك أمور تفعلها على المستوى الشعوري مثل أنك تقرأ هذا المقال الأن و أنت واعٍ بما تقرأه، أما على المستوى اللاشعوري فإنك قد تقرأ هذا المقال لأن عنوان المقال يذكرك بشيء ما أنت مررت به في السابق لكنك لا تعلم هذا فعلاً لأن اللاشعور لا يكون تحت سيطرتك و أنت في الغالب لا تعرف عنه شيء لأنه الجزء المظلم من نفسك .

    و الأن طبق هذا الأمر على حادثة ستوكهولم، ماذا لو كان تصرف الرهائن نابع من ميكانيزمات دفاع لا شعورية ؟ هناك ميكانيزم اسمه الإنكار Deniel و معناه ببساطة أنك لا تعترف بما حصل بل تختلق حدث عكسه حتى لا تواجه الحقيقة المؤلمة و التي مفادها أنك كنت على وشك الموت، و أفترض أن هذا ما حدث في ستوكهولم، بدلاً من كره الرهائن للمجرم المعتدي الذي كان على وشك قتلهم، قاموا بالتعاطف معه و تبرير و أنسنة أفعاله، هل تذكر غريزة البقاء التي حدثتك عنها ؟ إنها حفاظاً على حياتك تستنكر أنك كنت على وشك الموت .

و فرويد رائد التحليل النفسي كان يرى بأن الإنسان المازوخي هو إنسان سادي تجاه نفسه، و المازوخية تعني التلذذ بوقوع الألم عليك و السادية

عكسها تماماً فتعني التلذذ بتعذيب الأخر، و مقصد فرويد أنك بدلاً من معاقبة الأخر الذي قام بالاعتداء عليك، تقوم بمعاقبة نفسك لأنك لا تستطيع مواجهة الأخر، أو أن شخصيتك ضعيفة غير متقبلة للشر الرابض بداخل بعض النفوس، و أعتقد أن الذي شرحته الأن يمكن تطبيقه على مواقف عديدة مثل ( بنت تعرضت للتحرش فتتعاطف مع المتحرش_شخص تعرض للاختطاف فيتعاطف مع المختطف_شخص قام بتعذيبك في معتقل مثلاً فتتعاطف معه_ شخص قام بسرقتك و هكذا )

    ذكرني ذلك بقصة هارييت توبمان و هي السيدة التي حررت حوالي 1000 عبد في أمريكاً، قالت هارييت " لقد حررت ألف عبد، كان بإمكاني تحرير ألف أخرين لو أنهم علموا فقط أنهم عبيد"، لذلك أحياناً ما يكون تقديرك للموقف خاطئ و لذلك تظن أن لا مناص منه فيفعل العقل فعلته التي شرحناها سابقاً .

Post a Comment

أحدث أقدم